ذكر ابن حجر في لسان الميزان: [عبد الله ابن هلال الكوفي الساحر، المعروف (بصديق إبليس)، كان في زمن بني أمية، قال أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر، في (كتاب العجائب) له حدثني محمد بن إدريس، سمعت محمد بن عصمة، وكان صاحب حديث يقول: سمعت شيخا من بغداد يقول: كان من أمرِ عبد الله ابن هلال أنه مَرَّ يوما في بعض أزقَّةِ الكوفة، وقد أهريق عسلٌ لرجلٍ، وقد اجتمع الصبيان يلعقونه، ويقولون: (أخزى الله إبليس). فقال لهم عبد الله ابن هلال: (لا تقولوا هكذا، وقولوا: جزى الله إبليس عنا خيرا، فأنه أراق العسل، حتى صرنا نلعقَه). قال: فجاء إبليس إلى عبد الله ابن هلال، فقال له: (إن لك عندي يدًا؛ إذ نهيتَ الصبيان عن سبي، وأنا أكافئك عليها)، فدفع إليه خاتما، وقال: (كلُّ حاجةٍ تبدو لكَ مقضية). فكان إذا أراد شيئا تهيأ له في الحال.
وكان للحجاج جاريةٌ يحبُّها، فعمل رجل يومًا في قصرِ الحجاج، فنظرها فأحبها، فجاء إلى ابن هلال، وكان يخدمه، فشكا إليه حاله، فقال: (الليلة آتيك بها)، فجاءه لما جنَّ الليلُ والجاريةُ معه، فباتت عنده إلى الصباح، ثم صار يأتيه بها كلَّ ليلةٍ، فاصفرَّ لون الجارية؛ من الخوف والسهر، فشكت إلى الحجاج، فقالت: (إنه إذا نام الناس يأتيني آتٍ فيذهب بي إلى بيتِ فتىً شاب، فأكونُ فيه إلى الصبَاح، فإذا أصبحتُ أرى نفسي في القصر). قال: فأمر بطشت من خلوق، =أي من طيب وعطور=، فقال لها: (إذا وصلتِ بيتَ الرجل فلطخي بابه). ففعلت، وبعث الحرس، فأتوه بالرجل، فقال له الحجاج: (لك الأمان! فأخبرني بقضيتك)، فأخبره فطلب عبد الله ابن هلال، فقال: (يا عبد الله! تركت الدنيا وعاملتني بهذا!) ودعا بالسيف والنطع. قال: فأخرج عبد الله كُبة غزل، فأعطى طرفها الحجاج، وقال: (امسك هذا حتى أريك عجبا قبل أن تقتلني) ورمى الكبة إلى الهواء، وتعلق بالخيط فارتفع فلما صار في أعلى القصر؛ قال: (يأمر الأمير بشيء؟!) ثم ذهبَ، وقبض عليه الحجاج مرةً غيرَ هذه فسجنه، فقال لأهل السجن: (من شاء أن ينحدرَ معيَ إلى البصرة فليركب هذه السفينة)، وخطَّ مثلَ السفينة، فدخل معه فيها بعضهم، وامتنع آخرون، ونجا هو ومن معه.
... عبد الله ابن هلال =هذا= صديقُ إبليس؛ كان يتركُ لأجلِ إبليسَ صلاة العصر، وكانت حوائجه عنده مقضية، ...]. لسان الميزان (3/ 372- 373، رقم 1491).
الخاتمة
1- السحر منه ما هو حقيقة، ومنه ما هو خيال.
2- قد يخل في مسمى السحر لغة حسن البيان، وخفة اليد ونحوها.
3- السحر الحقيقي إن كان فيه كفر وشرك، ففاعله مشرك كافر، وإن كان بغير ذلك فلا يكفر لكن إن قتل به يقتل، وإن تسبب في إمراض أو جراحة ونحوها، أو إفساد مال ونحوه، فيعاقب العقوبة الرادعة بحسبه.
4- ليس كل مرض أو ألم أو صداع، أو شجار أو خصام أو طلاق، من السحر. وليس كل ما يخرق العادة سحر أو معجزة أو كرامة.
5- إذا أصيب الإنسان المسلم بمصيبة فليتوجه إلى الله جل جلاله ويدعوه لتفريجها ورفعها، وليعرض مصيبته على مختصٍّ، فإن كانت مرضا عرضها على طبيب، وإن كانت اجتماعية فليعرضها على أهل الإصلاح، وهكذا..
فإن تأكد أن مصيبته سببها سحرٌ، فليستعن بالله ويرقي نفسه، وليعرضها على العلماء، ومن له خبرة بذلك من أهل الخير والصلاح.
6- على المسلم أن يحذر السحرة والدجالين والمشعبذين، ونحوهم.
7- على المسلم أن يتوكل على الله في كل أموره، ولا بأس بأخذ الأسباب الشرعية. والتحصن بالأذكار والأدعية وآيات الرقية وغيرها من العلاجات المشروعة.
هذا والله تعالى أعلم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، (أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص =الله ورسوله= فإنه لا يضرُّ إلا نفسه ولا يضرُّ الله شيئا).
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. (آل عمران: 102)
{
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}. (النساء: 1)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}. (الأحزاب: 70، 71)
أما بعد: فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
انتشر حديثُ الناس في هذه الآونة ومنذ زمن عن السحر والسحرة، فما يحدث شجار بين العائلات؛ إلاّ ونسبوه إلى السحر! وما ينشأ خصام بين الزوجين؛ إلا وجعلوا سببَه السحر! وما يفتتح شابٌّ أولَ حياتِه الزوجيةِ بالأفراحِ الماجنة، والمخالفات الشرعية، ثم لا يستطيع الدخول على عروسِه؛ إلا وقالوا: مربوط! وما لم يوفَّق بعضهم في تجارته أو وظيفته، أو اكتسابِ عيشه؛ إلا وقالوا: معمول لهم عمل! وما يصاب أحدهم بصداع في رأسه، أو ألم في بطنه؛ إلا وألصقوه بالسحر!
وهكذا أصبح السحرُ مِشْجبًا أي شمَّاعة تعلَّق عليها المصائب والأمراض والعاهات، فكلُّ مَن قصَّر في جنب الله، أو قصّر في طاعة الله، أو ارتكب ما نهى عنه الله سبحانه، فيصاب بمصيبة
فيقولون: مسحور، سحروه، ربطوه، عملوا له عملا.
وبدل أن يطيعوا الله ولا يعصوه، يذهبون للدجاجلة والكهنة، والعرافين والشوافين والمشعبذين، وأصحابِ النظرِ في الكفِّ والفنجان، وأربابِ الطرق والتصوُّف، والجهلةِ والخرافيين...
فهل للسحر حقيقةٌ وواقع، أم هو خيالٌ وكذب وتدجيل؟في هذه الليلة سيتبين شيءٌ من ذلك، بوضع النقاط على الحروف،
فأقول مستمدا العون والتوفيق والإصابة من الله جل جلاله:
السحر لغة: [كلُّ ما لَطُفَ مأخَذُهُ ودَقَّ] القاموس المحيط (مادة سحر)، وفاعله ساحر، ومفعوله مسحور.
وحديث: [
"إنَّ من البيانِ لَسِحْراً" معناهُ والله أعْلَمُ أنه: يَمْدَحُ الإنسانَ فَيَصدُقُ فيه حتى يَصْرِفَ قُلوبَ السامِعِينَ إليه، ويَذُمُّه فَيصْدُقُ فيه حتى يَصْرِفَ قُلوبَهُم أيضاً عنه]. القاموس المحيط (سحر)
السحر اصطلاحا: [السِّحْر: هُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ، أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ، أَوْ قَلْبِهِ، أَوْ عَقْلِهِ، مِنْ غَيْر مُبَاشَرَةٍ لَهُ.
وَلَهُ حَقِيقَةٌ، فَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ، وَمَا يُمْرِضُ، وَيَأْخُذُ الرَّجُلَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَيَمْنَعُهُ وَطْأَهَا،
وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمَا يُبَغِّضُ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ، أَوْ يُحَبِّبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ]. المغني لابن قدامة (9/ 28).
والسحرُ حقيقةً فيه استعانةٌ بالشياطين وكَفَرِةِ الجنّ، فيقدِّم الساحرُ إليهم ما يطلبون من كفرٍ وشرك، وما يغضبُ ربَّ العالمين، وما لا يرضَى عنه المؤمنون؛ من اتخاذِ أحذيةٍ من ورقِ القرآن الكريم، والدخولِ بها في المراحيض، أو الاستنجاء بها وباللبن الحليب، أو إلقاء المصحف من وراء الظهر، أو يطلبون منه ذبحَ دجاجةٍ سوداءَ، أو تيسا أسود، أو يقتلون قطًّا أسود، أو كلبًا أسود، ليستفيدوا من بعض أعضائه؛ أكْلاً أو تعليقًا ونحو ذلك.
الفرق بين السحر والمس والصرع
وهناك فرق بين السحر والمس والصرْع، وإن كان الكلُّ يشترك فيه تدخُّلُ الجنِّ أو الشياطينِ فيه، فيؤثِّرون في بدنِ المسحورِ أو الممسوسِ أو المصروع، عافانا الله وإياكم.
فالمسُّ هو أن يتسلَّطَ الجنيُّ على الإنسيِّ من الخارج، فيؤثِّرُ عليه بالألمِ والوجعِ والمرض، والهلوسة، ويفرُّ عند الإحساس بالخطر.
والصرْعُ مثلُ المسِّ في التأثير؛ إلاَّ أنه يدخلُ في بدنِ المصروع، وقد يتكلَّم على لسانه، ويشعرُ بالعذاب أثناء التلاوةِ والضربِ واللعن والشتم، ولا يخرج إلا بإذن الراقي.
الفرق بين السحر والدجل والشعوذة
أما الدجل فهو الكذب والتمويه، [والشعبذة مَا يكون من ذَلِك فِي سرعَة، فَكل شعبذةٍ سحر، وَلَيْسَ كل سحر شعبذة]. الفروق اللغوية للعسكري (ص: 257)
و[الشعوذة والشعبذة؛ وهي خفة في اليد وأخذ كالسحر]. من أساس البلاغة (1/ 510)
والمشعوذ والمشعبذ يستخدمُ الدهاء، الفطنةَ والذكاء، واستغباء المشاهد، وذلك بصرفِ انتباهِه إلى أمرٍ آخرَ ويفاجئه بما أراد، فيحصل الذهولُ والانبهار والتصفيق.
كأنْ يضعَ في يده اليمنى قطعةَ نقود، ويقومُ بحركاتٍ معينة، ثم يسأل أين هي؟ فالجواب خطأ على أيِّ حال، فلا هي في اليمين ولا في الشمال، ويخرجها مثلا من فمه!!
أو يحضِّر أوراقًا تستخرجها أنت من إناء قد وضعها فيه مسبقا، مكتوب فيها اسمَك واسمَ زوجتك، وتوكيلٌ للشياطين بالتفريق الدائم الأبدي السرمدي... فهذا قد يكون خفة يد، أو يكون بالاستعانة بالشياطين.
الفرق بين السحر والأمراض النفسية
أما الأمراض النفسية، فهي عبارة عن اضطراباتٍ في الأعصاب، وبعض خلايا المخ، تسبب خللاً في بعض الأعمال التي يقوم بها الشخص، فيتأثر في مِشْيتِه وحركتِه، في كلامِه ومنطقه، ومن أسباب الأمراض النفسية: ضربةٌ في الرأس، خطأٌ طبِّيٌّ بقطْع عصبٍ من الأعصاب التي تؤثر على التحكم في عضلات الإنسان وكلامِه وتفكيرِه.
الفرق بين السحر والآية والمعجزة والكرامة
[ومُعْجِزَةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أعْجَزَ به الخَصْمَ عندَ التَّحَدّي والهاءُ للمُبالَغَةِ]. القاموس المحيط (عجز)
[المعجزة: مأخوذة من العجز، وهو عدم القدرة.
والمعجزة في الاصطلاح: أمر خارقٌ للعادة، يجري على أيدي الأنبياء =عليهم الصلاة والسلام= للدلالة على صدقهم مع سلامة المعارضة]. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة (ص: 199)
[وآيات الأنبياء إذا وصفت بذلك، =أي بأنها عجائب أو معجزات...= فينبغي أن يُقيَّدَ بما يَختصُّ بها؛ فيقال: العجائب التي أتت بها الأنبياء، وخوارق العادات، والمعجزات التي ظهرت على أيديهم، أو التي لا يقدرُ عليها البشر، أو لا يقدرُ عليها أحدٌ بحيلةٍ واكتساب؛ كما يقدرونَ على السحرِ والكهانة، فبذلك تتميّز آياتهم عما ليس من آياتهم. وإلاّ فلفظ العجائب =والمعجزات= قد يُدخِل فيه بعضُ الناس الشعبذةَ ونحوَها]. النبوات لابن تيمية (2/ 829)
[
والكرامة هي خارقٌ للعادةِ غيرُ مقرون بدعوى النبوة، فإذا اقترن بدعوى النبوة كان معجزة، ولا يكون الأمر الخارقُ كرامةً إلا لعبدٍ ظاهرُه الصلاح، ومصحوباً بصحةِ الاعتقاد والعمل الصالح.
فإذا ظهرَ الأمرُ الخارقُ على يدِ المنحرفين؛ فهو من الأحوال الشيطانيّة، وإذا ظهر الأمر الخارق على يدِ إنسانٍ مجهول؛ لا يُعرف حاله، فإنَّ حالَه يُعرَضُ على الكتابِ والسنة، كما رُوي عن الشافعي =رحمه الله تعالى= أنه قال: (إذا رأيتم الرجلَ يسيرُ على الماء، ويطيرُ في الهواء، فلا تصدِّقوه حتى تعرضوا حالَه على الكتابَ والسنة. أو كما قال رحمه الله.
وأهل السنة يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً بكرامات الأولياء، وما جرى على أيديِهم من الخوارقِ للعاداتِ في العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثير، ومن ذلك قصةُ أصحابِ الكهف، والنومِ الطويل الذي أوقعه الله بهم. ومن ذلك ما أكرمَ اللهُ بهِ مريمَ بنتَ عمرانَ من إيصال الرزقِ إليها، وهي في المحراب]. شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية في ضوء الكتاب والسنة (ص: 58)، ونحوه في التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية للفوزان (ص: 241).
بداية السحر في التاريخ
السحر وجد منذ الفراعنة أو قبلهم، وانتشر وزاد في عصرهم، {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ* فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ* فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ* قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}. (الشعراء: 41- 48)
قصة قابلة للتصديق والتكذيب
قصة (بدور)، وقيل: (قدور الساحرة)، وهي [امرأةٌ مصريَّةٌ ساحرةٌ، كانت في زمان دلوكة, =فمن هي دلوكة هذه؟= (لما هلك فرعون المذكور، ملكت القِبْطَ بعده دلوكةُ، المشهورةُ بالعجوز، وهي من بناتِ ملوكِ القبط، وكان السحر قد انتهى إِليها، وطال عمرُها حتى عرفت بالعجوز) المختصر في أخبار البشر (1/ 58). ففي عصرها كانت بدور أو قدور التي=. كانت السحرةُ تعظِّمُها وتقدِّمها، ولما حَلَّ ما حَلَّ بفرعونَ والمصريين من الغرقِ في البحر الأحمر، عند اتباعهم بني إسرائيل، ولم يعُدْ في مصرِ من الرجالِ المقدمين من يقدر على حفظِ البلاد، بعثت دلوكة إلى بدور تقول لها: (إننا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا إليك، ولا نأمنُ أن يطمع فينا الملوك, فاعملي لنا شيئا نغلبْ بِه من حولنا، وقد كان فرعون يحتاج إليك، فكيف وقد ذهب أكابرُنا وبقي أقلُّنا؟!!)
فبنت بدورُ (بَرابيَ) من حجارة في وسط مدينة مَنْف، وجعلت لها أربعة أبواب على جهة القبلي والبحري، والشرق والغرب, وصوّرت فيه صور الخيل والبغال والحمير, والسفن والرجال، وقالت لهم: (قد عملتُ لكم عملاً يهلك به كلُّ من أرادكم من أي جهةٍ تؤتون منها؛ برًّا وبحرا، وهذا يغنيكم عن الحِصن، ويقطعُ عنكم مؤنة من أتاكم من كلِّ جهة، فإنهم إن كانوا في البرِّ على خيل أو بغال, أو إبل أو في سفن, أو رجالة؛ تحركت هذه الصور فيصيبهم في أنفسهم. =فما فعلتم بالصور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما يفعلون بهم).
فلمّا بلغ الملوكَ حولهم أنَّ أمرَهم قد صارَ إلى ولايةِ النساء، طمعوا فيهم، وتوجهوا إليهم، فلما دنوا من عمل =أي أرض وديار= مصر، تحركت تلك الصور التي في البَرّ، فطفقوا لا يهيِّجون تلك الصور، ولا يفعلون بها شيئًا إلاَّ أصابَ ذلك الجيش الذي أقبل إليهم مثله؛
من قطع رءوسها أو سُوقها، أو فقْءِ عينها، أو بقْر بطونها. وانتشر ذلك، فتناذرهم الناس،=
قيل: ولم تزل تلك العجوزُ تدبِّرُ مصرَ نحو أربعمائة سنة، وكلَّما انهدم من تلك البرابي شيء لم يقدر على إصلاحه إلاَّ هي، أو ولدُها، أو ولدُ ولدِها, ولما انقرض بيتُها تهدمت البرابي ولم يقدر أحدٌ على إصلاحها -ذكر ذلك المقريزي]. الدر المنثور في طبقات ربات الخدور (ص: 90). وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، للسيوطي (ت 911هـ).
السحر واليهود
قال سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. (البقرة: 102)
حتى في عهد النبوة كان اليهود يتعاملون بالسحر والشعوذة، عَنِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْنَبَ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ». قَالَتْ: قُلْتُ: (لِمَ تَقُولُ هَذَا؟! وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي، فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَتْ)، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: (إِنَّمَا ذَاكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رَقَاهَا =اليهودي= كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»). سنن أبي داود (3883)
أنواع السحر
[والسحر على قسمين:
القسم الأول:
سحر حقيقي: وهو ما يؤثر في بدن المسحور فيمرضه أو يؤثر على عقله أو يقتله، فهذا عمل شيطاني.
القسم الثاني:
سحر تخييلي، قال الله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}. (طه: 66)، وهو ما يسمى: القمرة، فيعملون شيئاً على أعين الناس، وهو ليس له حقيقة، فيظهر منه أن يضرب نفسه بالسيف، وأنه يأكل المسامير أو النار أو الزجاج، أو يدخل في النار، أو أن السيارة تمشي عليه، أو ينام على مسامير، أو يجر السيارة بشعره، أو يأتي بأوراق عادية، ويروج على الناس أنها نقود، وإذا ذهب سرحه عادت الأوراق إلى أصلها، كما يحصل من النشالين. ومن أعمال السحرة أيضاً: أن يأتي أحدهم بجُعْلٍ، وهي الحشرة المعروفة، ويُظهر بسحره أمام الناس أنها خروف، وكذلك فهم يروجون على الناس أنهم يمشون على خيط دقيق، وهو ما يسمى السرك، أو ما يسمى بالبهلوان.
فهذا كلُّه كذبٌ وتدجيلٌ على الناس، وسِحرٌ لأعينِ الناس، وهو سحرٌ تخييليٌّ، إذا ذهب هذا السحرُ عادت الأمورُ كما هي، فيجبُ علينا أن لا نغترَّ بهم، ولا نصدقهم، ولا نمكنهم من أولادنا، ولا بلادنا من أجل ترويج سحرهم]. التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص: 249).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: [قَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ أَنَّ أَنْوَاعَ السِّحْرِ ثَمَانِيَةً:
الْأَوَّلُ:
سِحْرُ الكلُدْانيين والكُشْدانيين، الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّرَةَ، وَهِيَ السَّيَّارَةُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدَبّرة الْعَالَمِ وَأَنَّهَا تَأْتِي بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعث إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا لِمَذْهَبِهِمْ...
النَّوْعُ الثَّانِي:
سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنُّفُوسِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَهْمَ لَهُ تَأْثِيرٌ، بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى الْجِسْرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَمْدُودًا عَلَى نَهَرٍ أَوْ نَحْوَهُ...
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ حَقٌّ... ويَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
"الْعَيْنُ حَقّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ"...
النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ السِّحْرِ:
الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ، وَهُمُ الْجِنُّ، خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ: وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنُونَ، وَكُفَّارٌ، وَهُمُ الشياطينُ... وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنَ اتِّصَالَهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْقُرْبِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَرْبَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الرُّقَى وَالدَّخَلِ وَالتَّجْرِيدِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ وَعَمَلِ التَّسْخِيرِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ السِّحْرِ:
التَّخَيُّلَاتُ، وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ وَالشَّعْبَذَةُ، وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يُخْطِئُ، وَيَشْتَغِلُ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشَعْبِذَ الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يُذْهِلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ، وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَفْرَغَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ بِالتَّحْدِيقِ وَنَحْوِهِ، عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرَ مَا انْتَظَرُوهُ. فيتعجَّبون مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا صْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ.
... وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ سِحْرَ السَّحَرَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. (الْأَعْرَافِ: 116)، وَقَالَ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}. (طَهَ: 66)، قَالُوا: وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنَ السِّحْرِ:
الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ التِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ، كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. وَمِنْهَا الصُّوَرُ التِي تُصَوِّرها الرومُ وَالْهِنْدُ، حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِيلِ. قَالَ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
قُلْتُ: يَعْنِي مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، فَحَشَوْهَا زِئْبَقًا فَصَارَتْ تَتَلَوَّى بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ الزِّئْبَقِ، فَيُخَيَّلُ إِلَى الرَّائِي أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ بِالْآلَاتِ الْخَفِيفَةِ.
قَالَ: وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ السِّحْرِ؛ لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا مَعْلُومَةً يَقِينِيَّةً مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا قَدَرَ عَلَيْهَا.
قُلْتُ =ابن كثير=: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِيَلُ النَّصَارَى عَلَى عَامَّتِهِمْ، بِمَا يُرُونَهم إِيَّاهُ مِنَ الْأَنْوَارِ، كَقَضِيَّةِ قُمَامة الْكَنِيسَةِ التِي لَهُمْ بِبَلَدِ الْمَقْدِسِ، وَمَا يَحْتَالُونَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ خِفْيَةً إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَإِشْعَالِ ذَلِكَ الْقِنْدِيلِ بِصَنْعَةٍ لَطِيفَةٍ تَرُوجُ عَلَى الْعَوَامِّ مِنْهُمْ وَأَمَّا الْخَوَاصُّ فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُونَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ شَمْلَ أَصْحَابِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَيَرَوْنَ ذَلِكَ سَائِغًا لَهُمْ...
ثُمَّ ذكر ههنا حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَائِرٍ حَزِينِ الصَّوْتِ ضَعِيفِ الْحَرَكَةِ، فَإِذَا سَمِعَتْهُ الطُّيُورُ تَرِقّ لَهُ فَتَذْهَبُ فَتُلْقِي فِي وَكْره مِنْ ثَمَرِ الزَّيْتُونِ، لِيَتَبَلَّغَ بِهِ، فعَمَد هَذَا الراهبُ إِلَى صَنْعَةِ طَائِرٍ عَلَى شَكْلِهِ، وَتَوَصَّلَ إِلَى أَنْ جَعَلَهُ أَجْوَفَ، فَإِذَا دَخَلَتْهُ الرِّيحُ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ ذَلِكَ الطَّائِرِ، وَانْقَطَعَ فِي صَوْمَعَةٍ ابْتَنَاهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا عَلَى قَبْرِ بَعْضِ صَالِحِيهِمْ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ الطَّائِرَ فِي مَكَانٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ زَمَانُ الزَّيْتُونِ فَتَحَ بَابًا مِنْ نَاحِيَةٍ، فَتَدْخُلُ الرِّيحُ إِلَى دَاخِلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَيُسْمَعُ صَوْتُهَا كَذَلِكَ الطَّائِرُ فِي شَكْلِهِ أَيْضًا، فَتَأْتِي الطُّيُورُ فَتَحْمِلُ مِنَ الزَّيْتُونِ شَيْئًا كَثِيرًا فَلَا تَرَى النَّصَارَى إِلَّا ذَلِكَ الزَّيْتُونَ فِي هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا سَبَبُهُ؟ فَفَتَنَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَوْهَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ السِّحْرِ:
الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ يَعْنِي فِي الْأَطْعِمَةِ وَالدِّهَانَاتِ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ، فَإِنَّ أَثَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ.
قُلْتُ =ابن كثير=: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدّعي الْفَقْرَ، وَيَتَحَيَّلُ عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ، مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ، وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَالَاتِ.
قَالَ: النَّوْعُ السَّابِعُ مِنَ السِّحْرِ:
تَعْلِيقُ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الساحرُ أَنَّهُ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ، قَلِيلَ التَّمْيِيزِ؛ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، وَحَصَلَ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ مِنَ الرَّهَبِ وَالْمَخَافَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ، فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ.
قُلْتُ =ابن كثير=: هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ: (التَّنْبَلَةُ)، وَإِنَّمَا يَرُوجُ عَلَى الضُّعَفَاءِ الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَفِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَامِلِ الْعَقْلِ مِنْ نَاقِصِهِ، فَإِذَا كَانَ المُتَنْبِلُ حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ؛ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ لَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ: النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنَ السِّحْرِ:
السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ، وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خفيفة لطيفة، وذلك شائع في الناس.
قُلْتُ =ابن كثير=: النَّمِيمَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ، تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَائْتِلَافِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
"لَيْسَ بِالْكَذَّابِ مَنْ يَنمّ خَيْرًا" أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ" فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
"الْحَرْبُ خُدْعَةٌ". وَكَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ، وَجَاءَ إِلَى هَؤُلَاءِ فَنَمَى إِلَيْهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كَلَامًا، وَنَقَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ لَأَمَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَتَنَاكَرَتِ النُّفُوسُ وَافْتَرَقَتْ. وَإِنَّمَا يَحْذُو عَلَى مِثْلِ هَذَا الذَّكَاءُ وَالْبَصِيرَةُ النَّافِذَةُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ.
قُلْتُ =ابن كثير=: وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنّ السِّحْرِ، لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا؛ لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَمَّا لطُف وَخَفِيَ سَبَبُهُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
"إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا". وَسُمِّيَ السُّحُورُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخَرَ اللَّيْلِ، والسَّحْر: الرِّئَةُ، وَهِيَ مَحَلُّ الْغِذَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا، وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَغُضُونِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُتْبَةَ: (انْتَفَخَ سَحْرُكُ) أَيِ: انْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (تُوُفِّيَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْري ونَحْري). وَقَالَ: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أَيْ: أَخْفَوْا عَنْهُمْ عَمَلَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هَبيرة بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِهِ: "الْإِشْرَافُ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَشْرَافِ" بَابًا فِي السِّحْرِ، فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُ. ....] تفسير ابن كثير تحقيق سلامة (1/ 367- 371)
يتبع